فصل: تفسير الآية رقم (36)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏والذين ءاتيناهم الكتاب‏}‏ نزلت كما قال الماوردي في مؤمني أهل الكتابين كعبد الله بن سلام‏.‏ وكعب‏.‏ وأضرابهما من اليهود وكالذين أسلموا من النصارى كالثمانين المشهورين وهم أربعون رجلاً بنجران وثمانية باليمن واثنان وثلاثون بالحبشة، فالمراد بالكتاب التوراة والانجيل ‏{‏يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ‏}‏ ذ إذ هو الكتاب الموعود فيما أوتوه ‏{‏وَمِنَ الاحزاب‏}‏ أي من أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة ككعب بن الأشرف‏.‏ وأصحابه‏.‏ والسيد‏.‏ والعاقب أسقفي نجران‏.‏ وأشياعهما، وأصله جمع حزب بكسر وسكون الطائفة المتحزبة أي المجتمعة لأمر ما كعداوة وحرب وغير ذلك، وإرادة جماعة مخصوصة منه بواسطة العهد ‏{‏مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ‏}‏ وهو ما لا يوافق كتبهم من الشرائع الحادثة إنشاء أو نسخاً وأما ما يوافق كتبهم فلم ينكروهر وإن لم يفرحوا به، وعن ابن عباس‏.‏ وابن زيد أنها نزلت في مؤمني اليهود خاصة‏.‏ فالمراد بالكتاب التوراة وبالأحزاب كفرتهم‏.‏ وعن مجاهد‏.‏ والحسن‏.‏ وقتادة أن المراد بالموصول جميع أهل الكتاب فإنهم كانوا يفرحون بما يوافق كتبهم‏.‏ فالمراد بما أنزل إليك بعضه وهو الموافق، واعترض عليه بأنه يأباه مقابلة قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الاحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ‏}‏ لأن إنكار البعض مشترك بينهم، وأجيب بأن المراد من الأحزاب من حظه انكار بعضه فحسب ولا نصيب له من الفرح ببعض منه لشدة بغضه وعداوته وأولئك يفرحون ببعضه الموافق لكتبهم، وقيل‏:‏ الظاهر أن المعنى أن منهم من يفرح ببعضه إذا وافق كتبهم وبعضهم لا يفرح بذلك البعض بل يغتم به وان وافقها وينكر الموافقة لئلا يتبع أحد منهم شريعته صلى الله عليه وسلم كما في قصة الرجم، وأنت تعلم أن الجوابين ليسا بشيء، وعلى تفسير الموصول بعامة أهل الكتاب فسر البعض البعض بما لم يوافق ما حرفوه، وبين ذلك بأن منهم من يفرح بما وافق ومنهم من ينكره لعناده وشدة فساده، وانكارهم لمخالفة المحرف بالقول دون القلب لعلمهم به أو هو بالنسبة لمن لم يحرفه، ولعل نعى الإنكار أوفق بالمقام من نعى التحريف عليهم على ما لا يخفى على المتأمل، وقيل‏:‏ المراد بالموصول مطلق المسلمين وبالأحزاب اليهود والنصارى والمجوس‏.‏

وأخرج ذلك ابن جرير عن قتادة، فالمراد بالكتاب القرآن، ومعنى ‏{‏يَفْرَحُونَ‏}‏ استمرار فرحهم وزيادته وقالت فرقة‏:‏ المراد بالأحزاب أحزاب الجاهلية من العرب، وقال مقاتل‏:‏ هم بنو أمية‏.‏ وبنو المغيرة‏.‏ وآل أبي طلحة ‏{‏قُلْ‏}‏ صادعاً بالحق غير مكترث بمنكر بعض ما أنزل إليك ‏{‏إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله وَلا أُشْرِكَ بِهِ‏}‏ أي شيئاً من الأشياء أولا أفعل إلا شراك به سبحانه، والظاهر أن المراد قصر الأمر على عبادته تعالى خاصة وهو الذي يقتضيه كلام الإمام حيث قال‏:‏ إن ‏{‏إِنَّمَا‏}‏ للحصر ومعناه إني ما أمرت إلا بعبادة الله تعالى وهو يدل على أنه لا تكليف ولا أمر ولا نهي إلا بذلك، وقيل‏:‏ معناه انما أمرت بعبادته تعالى وتوحيده لا بما أنتم عليه‏.‏

وفي إرشاد العقل السليم أن المعنى الزاماً للمنكرين ورداً لانكارهم إنما أمرت إلى آخره، والمراد قصر الأمر بالعبادة على الله تعالى لا قصر الأمر مطلقاً على عبادته سبحانه أي قل لهم‏:‏ إنما أمرت فيما أنزل إلي بعبادة الله تعالى وتوحيده‏.‏ وظاهر أن لا سبيل لكم إلى إنكاره لاطباق جميع الأنبياء عليهم السلام والكتب على ذلك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَن لا *نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏ فما لكن تشركون به عزيراً‏.‏ والمسيح عليهما السلام، ولا يخفى أن هذا التفسير مبني على كون المراد من الأحزاب كفرة أهل الكتابين وهذا الكلام إلزام لهم، واعترض بأن منهم من ينكر التوحيد وإطباق جميع الأنبياء والكتب عليه كالمثلثة من النصارى‏.‏

وأجيب بأنهم مع التثليث يزعمون التوحيد ولا ينكرونه كما يدل عليه قوله‏:‏ باسم الأب والابن وروح القدس إلهاً واحداً، وأنت تعلم أن هذا مما لا يحتاج إليه والاعتراض ناشيء من الغفلة عن المراحد، وقد يقال‏:‏ المعنى إنما أمرت بعبادة الله تعالى وعدم الإشراك به وذلك أمر تستحسنه العقول وتصرح به الدلائل الآفاقية والانفسية‏:‏

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد

فانكاره دليل الحماقة وشاهد الجهالة لا ينبغي لعاقل أن يلتفت إليه، ويجري هذا على سائر تفاسير الأحزاب‏.‏

وقرأ أبو خليد عن نافع ‏{‏وَلاَ أُشْرِكُ‏}‏ بالرفع على القطع أي وأنا لا أشرك، وجوز أن يكون حالاً أي أن أعبد الله غير مشرك به قيل‏:‏ وهو الأولى لخلو الاستئناف عن دلالة الكلام على أن المأمور به تخصيص العبادة به تعالى وفيه بحث ‏{‏إِلَيْهِ‏}‏ أي إلى الله تعالى خاصة على النهج المذكور من التوحيد أو إلى ما أمرت به من التوحيد ‏{‏أَدْعُو‏}‏ الناس لا إلى غيره ولا إلى شيء آخر مما لا يطبق عليه الكتب الإلهية والأنبياء عليهم السلام فما وجه انكاركم‏؟‏ قاله في الإرشاد أيضاً، والأولى عود الضمير على الله تعالى كنظيره السابق وكذا اللاحق في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ‏}‏ أي الله تعالى وحده ‏{‏مَئَابٍ‏}‏ أي مرجعي للجزاء وعلى ذلك اقتصر العلامة البيضاوي وكان قد زاد ومرجعكم فيما تقدم غير بعيد، واعترض بأنه كان عليه أن يزيده هنا أيضاً بل هذا المقام أنسب بالتعميم ليدل على ثبوت الحشر عموماً وهو المروى عن قتادة، وقد جعل الإمام هذه الآية جامعة لكل ما يحتاج المرء إليه من معرفة المبدأ والمعاد فقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَعْبُدَ الله وَلا أُشْرِكَ بِهِ‏}‏ جامع لكل ما ورد التكليف به وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ أَدْعُو‏}‏ مشير إلى نبوته عليه الصلاة والسلام‏.‏

وقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ مَابِ‏}‏ إشارة إلى الحشر والبعث والقيامة‏.‏ وأجاب الشهاب عن ذلك بقوله‏:‏ إن قول الزمخشري إليه لا إلى غيره مرجعي وأنتم تقولون مثل ذلك فلا معنى لانكاركم فيه بيان لنكتة التخصيص من أنهم ينكرون حقيقة أو حكماً فلا حاجة إلى ما يقال لا حاجة لذكره هنا لدلالة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تِلْكَ عقبى الذين اتقوا وَّعُقْبَى الكافرين النار‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 35‏]‏ انتهى‏.‏

وهو كما ترى، ولعل الاظهر أن يقال‏:‏ إن دلالة الكلام عليه هنا ليست كدلالته عليه هناك إذ مساق الآية فيه للتخويف اللائق به اعتباره ومساقها هنا لأمر آخر والاقتصار على ذلك كاف فيه‏.‏

وأنت تعلم أنه لا مانع من اعتباره ويكون معنى الآية قل في جوابهم‏:‏ إني إنما أمرني الله تعالى بما هو من معالي الأمور وإليه أدعو وقتاً فوقتا وإليه مرجعي ومرجعكم فيثيبني على ما أنا عليه وينتقم منكم على إنكاركم وتخلفكم عن اتباع دعوتي أو فحينئذ يظهر حقية جميع ما أنزل إلي ويتبين فساد رأيكم في إنكار كم شيئاً منه، وقد، يقال على عدم اعتباره نحو ما قيل فيما قبل‏:‏ إن المعنى قل في مقابلة إنكارهم إني إنما أمرني الله تعالى بما أمرني به وإليه ادعو وإليه مرجعي فيما يعرض لي في أمر الدعوة وغيره فلا أبالي بانكاركم فانه سبحانه كاف من رجع إليه، ولعل هذا المعنى هنا من حيث انه فيه تأسيس محض أولى منه هناك، واقتصر في الإرشاد على جعل الكلام إلزاماً وجعله نكتة أمره صلى الله عليه وسلم بأن يخاطبهم بذلك وذكر أن قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيّا‏}‏ شروع في رد إنكارهم لفروع الشرائع الواردة ابتداء أو بدلاً من الشرائع المنسوخة ببيان الحكمة في ذلك وأن الضمير راجع لما أنزل إليك والإشارة إلى مصدر ‏{‏أنزلناه‏}‏ أو ‏{‏أَنزَلَ إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 36‏]‏ أي مثل ذلك الإنزال البديع الجامع لأصول مجمع عليها وفروع متشعبة إلى موافقة ومخالفة حسبما يقتضيه قضية الحكمة أنزلناه حاكماً يحكم في القضايا والواقعات بالحق ويحكم به كذلك، والتعرض لهذا العنوان مع أن بعض ليس بحكم لتربيته وجوب مراعاته وتحتم المحافظة عليه، والتعرض لكونه عربياً أي مترجماً بلسان العرب للإشارة إلى أن ذلك إحدى مواد المخالفة للكتب السابقة مع أن ذلك مقتضى الحكمة إذ بذلك يسهل فهمه وإدراك إعجازه يعني بالنسبة للعرب، وأما بالنسبة إلى غيرهم فلعل الحكمة أن ذلك يكون داعياً لتعلم العلوم التي يتوقف عليها ما ذكر‏.‏ ومنهم من اقتصر على اشتمال الإنزال على أصول الديانات المجمع عليها حسبما يفيده على رأي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 36‏]‏ إلى آخره، وتعقب بأنه يأباه التعرض لا تباع أهوائهم وحديث المحو والإثبات وإنه لكل أجل كتاب فإن المجمع عليه لا يتصور فيه الاستتباع والاتباع، وقيل‏:‏ إن الإشارة إلى إنزال الكتب السالفة على الأنبياء عليهم السلام، والمعنى كما أنزلنا الكتب على من قبلك أنزلنا هذا الكتاب عليك لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين ءاتيناهم الكتاب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 36‏]‏ يتضمن إنزاله تعالى ذلك وهذا الذي أنزلناه بلسان العرب كما أن اكلتب السابقة بلسان من أنزلت عليه ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ الله إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 4‏]‏ وإلى هذا ذهب الامام‏.‏ وأبو حيان، وقال ابن عطية‏:‏ المعنى كما يسرنا هؤلاء للفرح وهؤلاء لإنكار البعض أنزلناه حكماً إلى آخره وليته ما قيل، وإلا بلغ الاحتمال الأول مما أشرنا إليه، ونصب ‏{‏حُكْمًا‏}‏ على الحال من منصوب ‏{‏نزلناه‏}‏ وإذا أريد به حاكماً كان هناك مجاز في النسبة كما لا يخفى، ونصب ‏{‏عَرَبِيّاً‏}‏ على الحال أيضاً أما من ضمير ‏{‏أنزلناه‏}‏ كالحال الأولى فتكون حالا مترادفة أو من المستتر في الأولى فتكون حالاً متداخلة، ويصح أن يكون وصفا لحكما الحال وهو موطئة وهي الاسم الجامد الواقع حالا لوصفه بمشتق وهو الحال في الحقيقة، والأول أولى لأن ‏{‏حُكْمًا‏}‏ مقصود بالحالية هنا والحال الموطئة لا تقصد بالذات‏.‏

واختار الطبرسي أن معنى ‏{‏حُكْمًا‏}‏ حكمة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الكتاب والحكم والنبوة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 89‏]‏ وهو أحد أوجه ذكرها الإمام، ونصبه على الحال أيضاً فلا تغفل‏.‏ واستدلت المعتزلة بالآية على حدوث القرآن من وجوه الأول أنه تعالى وصفه بكونه منزلاً وذلك لا يليق إلا بالمحدث‏.‏ الثاني أنه وصفه بكونه عربياً والعربي أمر وضعي وما كان كذلك كان محدثاً‏.‏

الثالث أنها دلت على أنه إنما كان حكماً عربياً لأن الله تعالى جعله كذلك والمجعول محدث‏.‏ وأجاب الإمام بأن كل ذلك إنما يدل على أن المركب من الحروف والأصوات محدث ولا نزاع فيه أي بين المعتزلة والإشاعرة وإلا فالحنابلة على ما اشتهر عنهم قائلون بقدم الكلام اللفظي، وقد أسلفنا في المقدمات كلاماً نفيساً في مسألة الكلام فارجع إليه ولا يهولنك قعاقع المخالفين لسلف الأمة‏.‏

‏{‏وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم‏}‏ التي يدعونك إليها كالصلاة إلى بيت المقدس بعد تحويل القبلة إلى الكعبة وكترك الدعوة إلى الإسلام ‏{‏بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم‏}‏ العظيم الشأن الفائض عليك من ذلك الحكم العربي أو العلم بمضمونه ‏{‏مَا لَكَ مِنَ الله‏}‏ من جنابه العزيز جل شأنه والالتفات من التكلم إلى الغيبة وإيراد الاسم الجليل لتربية المهابة ‏{‏مِن وَلِىّ‏}‏ يلى أمرك وينصرك على من يبغيك الغوائل ‏{‏وَلاَ وَاقٍ‏}‏ يقيك من مصارع السوء، وحيث لم يستلزم نفي الناصر على العدو نفي الواقي من نكايته أدخل في المعطوف حرف النفي للتأكيد كقولك‏:‏ ما لي دينار ولا درهم أو مالك من بأس الله تعالى من ناصر وواق لاتباعك أهواءهم بعدما جاءك من الحق، وأمثال هذه القوارع إنما هي لقطع أطماع الكفرة وتهييج المؤمنين على الثبات في الدين لا للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه عليه الصلاة والسلام بمكان لا يحتاج فيه إلى باعث أو مهيج، ومن هنا قيل‏:‏ إن الخطاب لغيره صلى الله عليه وسلم، واللام في لئن موطئة و‏{‏مِنْ‏}‏ الثانية مزيدة و‏{‏مالك‏}‏ ساد مسد جوابي الشرط والقسم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً‏}‏ كثيرة كائنة ‏{‏مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً‏}‏ أي نساء وأولاداً كما جعلناها لك، روي عن الكلبي أن اليهود عيرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح ولو كان نبياً كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء فنزلت رداً عليهم حيث تضمنت أن التزوج لا ينافي النبوة وأن الجمع بينهما قد وقع في رسل كثيرة قبله‏.‏

ذكر أنه كان لسليمان عليه السلام ثلثمائة امرأة مهرية وسبعمائة سرية وأنه كان لداود عليه السلام مائة امرأة، ولم يتعرض جل شأنه لرد قولهم‏:‏ ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء للإشارة إلى أنه لا يستحق جواباً لظهور أنه عليه الصلاة والسلام لم يشغله أمر النساء عن شيء ما من أمر النبوة، وفي أدائه صلى الله عليه وسلم للأمرين على أكمل وجه دليل وأي دليل على مزيد كماله ملكية وبشرية‏.‏ ومما يوضح ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يجوع الأيام حتى يشد على بطنه الشريف الحجر ومع ذا يطوف على جميع نسائه في الليلة الواحدة ولا يمنعه ذاك عن هذا‏.‏

وفي تكثير نسائه عليه الصلاة والسلام فوائد جمة، ولو لم يكن فيه سوى الوقوف على استواء سره وعلنه لكفى، وذلك لأن النساء من شأنهم أن لا يحفظن سراً كيفما كان فلو كان منه عليه الصلاة والسلام في السر ما يخالف العلن لوقفن عليه مع كثرتهن ولو كن قد وقفن لأفشوه عملا بمقتضى طباع النساء لا سيما الضرائر‏.‏

ومن وقف على الآثار وأحاط خبراً بما روى عن هاتيك النساء الطاهرات علم أنهن لم يتركن شيئاً من أحواله الخفية إلا ذكروه، وناهيك ما روى أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في الإيلاج بدون إنزال هل يوجب الغسل أم لا‏؟‏ فسألوا عائشة رضي الله تعالى عنها فقالت ولا حياء في الدين‏:‏ فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا جميعاً؛ وروي أنهم طعنوا في نبوته بالتزوج وبعدم الاتيان بما يقترحونه من الآيات فنزل ذلك وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏ أي وما صح وما استقام ولم يكن في وسع رسول الله من الرسل الذين من قبل أن يأتي من أرسل إليهم بآية ومعجزة يقترحونها عليه إلا بتيسير الله تعالى ومشيئته المبنية على الحكم والمصالح التي يدور عليها أمر الكائنات، وقد يراد بالآية الآية الكتابية النازلة بالحكم على وفق مراد المرسل إليهم وهو أوفق بما بعد، وجوز إرادة الأمرين باعتبار عموم المجاز أي الدال مطلقاً أو على استعمال اللفظ في معنييه بناء على جوازه، والالتفات لما تقدم ولتحقيق مضمون الجملة بالإيمان إلى العلة‏.‏

‏{‏لِكُلّ أَجَلٍ‏}‏ أي لكل وقت ومدة من الأوقات والمدد ‏{‏كِتَابٌ‏}‏ حكم معين يكتب على العباد حسبما تقتضيه الحكمة، فإن الشرائع كلها لإصلاح أحوالهم في المبدأ والمعاد، ومن قضية ذلك أن تختلف حسب أحوالهم المتغيرة حسب تغير الأوقات كاختلاف العلاج حسب اختلاف أحوال المرضى بحسب الأوقات، وهذا عند بعض رد لما أنكروه عليه عليه الصلاة والسلام من نسخ بعض الأحكام كما أن ما قبله رد لطعنهم بعدم الإتيان بالمعجزات المقترحة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏يَمْحُو الله مَا يَشَاء‏}‏ أي ينسخ ما يشاء نسخه من الأحكام لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت ‏{‏وَيُثَبّتْ‏}‏ بدله ما فيه الحكمة أو يبقيه على حاله غير منسوخ أو يثبت ما يشاء إثباته مطلقاً أعم منهما ومن الإنشاء ابتداء، وقال عكرمة‏:‏ يمحو بالتوبة جميع الذنوب ويثبت بدل ذلك حسنات كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالحا فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 70‏]‏ وقال ابن جبير‏:‏ يغفر ما يشاء من ذنوب عباده ويترك ما يشاء فلا يغفره، وقال‏:‏ يمحو ما يشاء ممن حان أجله ويثبت ما يشاء ممن لم يأت أجله، وقال علي كرم الله تعالى وجهه‏:‏ يمحو ما يشاء من القرون لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 31‏]‏ ويثبت ما يشاء منها لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً ءاخَرِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 42‏]‏ وقال الربيع‏:‏ هذا في الأرواح حالة النوم يقبضها الله تعالى إليه فمن أراد موته فجأة أمسك روحه فلم يرسلها ومن أراد بقاءه أرسل روحه، بيانه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏ الآية، وعن ابن عباس‏.‏ والضحاك يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا بسيئة لأنهم مأمورون بكتب كل قول وفعل ويثبت ما هو حسنة أو سيئة، وقيل‏:‏ يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضاً من الأناسى وسائر الحيوانات والنباتات والأشجار وصفاتها وأحوالها، وقيل‏:‏ يمحو الدنيا ويثبت الآخرة، وقال الحسن‏.‏ وفرقة‏:‏ ذلك في آجال بني آدم يكتب سبحانه في ليلة القدر، وقيل‏:‏ في ليلة النصف من شعبان آجال الموتى فيمحو أناساً من ديوان الأحياء ويثبتهم في ديوان الأموات، وقال السدي‏:‏ يمحو القمر ويثبت الشمس بيانه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل وَجَعَلْنَا ءايَةَ النهار مُبْصِرَةً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 12‏]‏ وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يمحو الله تعالى ما يشاء من أمور عباده ويثبت إلا السعادة والشقاوة والآجال فإنها لا محو فيها، ورواه عنه مرفوعاً ابن مردويه، وقيل‏:‏ هو عام في الرزق والأجل والسعادة والشقاوة ونسب إلى جماعة من الصحابة والتابعين وكانوا يتضرعون إلى الله تعالى أن يجعلهم سعداء، فقد أخرج ابن أبي شيبة في «المصنف»‏.‏ وغيره عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ ما دعا عبد قط بهذه الدعوات إلا وسع عليه في معيشته يا ذا المن ولا يمن عليه يا ذا الجلال والإكرام يا ذا الطول لا إله إلا أنت ظهر اللاجئين وجار المستجيرين ومأمن الخائفين إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقياً فامح عني اسم الشقاوة وأثبتني عندك سعيداً وإن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب محروماً مقتراً على رزقي فامح حرماني ويسر رزقي وأثبتني عندك سعيداً موفقاً للخير فإنك تقول في كتابك الذي أنزلت ‏{‏يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب‏}‏‏.‏

وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وغيره عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ وهو يطوف بالبيت‏:‏ اللهم إن كنت كتبت عليّ شقوة أو ذنباً فامحه واجعله سعادة ومغفرة فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب‏.‏

وأخرج ابن جرير عن شقيق أبي وائل أنه كان يكثر الدعاء بهذه الدعوات اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامحنا واكتبنا سعداء وإن كنت كتبتنا سعداء فاثبتنا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت‏.‏

واخرج ابن سعد‏.‏ وغيره عن الكلبي أنه قال‏:‏ يمحو الله تعالى من الرزق ويزيد فيه ويمحو من الأجل ويزيد فيه فقيل له‏:‏ من حدثك بهذا‏؟‏ فقال‏:‏ أبو صالح عن جابر بن عبد الله بن رئاب الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأبو حيان يقول‏:‏ إن صح شيء من ذلك ينبغي تأويله فمن المعلوم أن السعادة والشقاوة والرزق والأجل لا يتغير شيء منها، وإلى التعميم ذهب شيخ الإسلام قال بعد نقل كثير من الأقوال‏:‏ والأنسب تعميم كل من المحو والإثبات ليشمل الكل ويدخل في ذلك مواد الإنكار دخولاً أولياً؛ وما أخرجه ابن جرير عن كعب من أنه قال لعمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ يا أمير المؤمنين لولا آية في كتاب الله تعالى لأنبئنك بما هو كائن إلى يوم القيامة قال‏:‏ وما هي‏؟‏ قال قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَمْحُو الله مَا يَشَاء‏}‏ الآية يشعر بذلك، وأنت تعلم أن المحو والإثبات إذا كانا بالنسبة إلى ما في أيدي الملائكة ونحوه فلا فرق بين السعادة والشقاوة والرزق والأجل وبين غيرها في أن كلاً يقبل المحو والإثبات، وإن كانا بالنسبة إلى ما في العلم فلا فرق أيضاً بين تلك الأمور وبين غيرها في أن كلاً لا يقبل ذلك لأن العلم إنما تعلق بها على ما هي عليه في نفس الأمر وإلا لكان جهلاً وما في نفس الأمر مما لا يتصور فيه التغير والتبدل، وكيف يتصور تغير زوجية الأربعة مثلاً وانقلابها إلى الفردية مع بقاء الأربعة أربعة هذا مما لا يكون أصلاً ولا أظنك في مرية من ذلك، ولا يأبى هذا عموم الأدلة الدالة على أنه ما شاء الله تعالى كان لأن المشيئة تابعة للعلم والعلم بالشيء تابع لما عليه الشيء في نفس الأمر فهو سبحانه لا يشاء إلا ما عليه الشيء في نفس الأمر، قيل‏:‏ ويشير إلى أن ما في العلم لا يتغير قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب‏}‏ بناءً على أن ‏{‏أُمُّ الكتاب‏}‏ هو العلم لأن جميع ما يكتب في صحف الملائكة وغيرها لا يقع حيثما يقع إلا موافقاً لما ثبت فيه فهو أم لذلك أي أصل له فكأنه قيل‏:‏ يمحو ما يشاء محوه ويثبت ما يشاء إثباته مما سطر في الكتب وثابت عنده العلم الأزلي الذي لا يكون شيء إلى على وفق ما فيه، وتفسير ‏{‏أُمُّ الكتاب‏}‏ بعلم الله تعالى مما رواه عبد الرزاق‏.‏

وابن جرير عن كعب رضي الله تعالى عنه، والمشهور أنها اللوح المحفوظ قالوا‏:‏ وهو أصل الكتب إذ ما من شيء من الذاهب والثابت إلا وهو مكتوب فيه كما هو‏.‏

والظاهر أن المراد الذاهب والثابت مما يتعلق بالدنيا لا مما يتعلق بها وبالآخرة أيضاً لقيام الدليل العقلي على تناهي الإبعاد مطلقاً والنقلي على تناهي اللوح بخصوصه، فقد جاء أنه من درة بيضاء له دفتان من ياقوت طوله مسيرة خمسمائة عام وامتناع ظرفية المتناهي لغير المتناهي ضروري، ولعل من يقول بعموم الذاهب والثابت يلتزم القول بالإجمال حيث يتعذر التفصيل‏.‏ وقد ذهب بعضهم إلى تفسير ‏{‏أُمُّ الكتاب‏}‏ بما هو المشهور، والتزم القول بأن ما فيه لا يتغير وإنما التغير لما في الكتب غيره، وهذا قائل بعدم تغير ما في العلم لما علمت‏.‏ ورأيت في نسخة لبعض الأفاضل كانت عندي وفقدت في حادثة بغداد ألفت في هذه المسألة وفيها أنه ما من شيء إلا ويمكن تغييره وتبديله حتى القضاء الأزلي واستدل لذلك بأمور‏.‏ منها أنه قد صح من دعائه صلى الله عليه وسلم في القنوت‏:‏ «وقني شر ما قضيت» وفيه طلب الحفظ من شر القضاء الأزلي ولو لم يمكن تغييره ما صح طلب الحفظ منه‏.‏ ومنها ما صح في حديث التراويح من عذره صلى الله عليه وسلم عن الخروج إليها، وقد اجتمع الناس ينتظرونه لمزيد رغبتهم فيها بقوله‏:‏ ‏"‏ خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها ‏"‏ فإنه لا معنى لهذه الخشية لو كان القضاء الأزلي لا يقبل التغيير، فإنه إن كان قد سبق القضاء بأنها ستفرض فلا بد أن تفرض وإن سبق القضاء بأنها لا تفرض فمحال أن تفرض على ذلك الفرض، على أنه قد جاء في حديث فرض الصلاة ليلة المعراج بعد ما هو ظاهر في سبق القضاء بأنها خمس صلوات مفروضة لا غير فما معنى الخشية بعد العلم بذلك لولا العلم بإمكان التغيير والتبديل‏.‏ ومنها ما صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يضطرب حاله الشريف ليلة الهواء الشديد حتى أنه لا ينام وكان يقول في ذلك‏:‏ ‏"‏ أخشى أن تقوم الساعة ‏"‏ فإنه لا معنى لهذه الخشية أيضاً مع إخبار الله تعالى أن بين يديها ما لم يوجود إذ ذاك كظهور المهدي وخروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام وخروج يأجوج ومأجوج ودابة الأرض وطلوع الشمس من مغربها وغير ذلك مما يستدعي تحققه زماناً طويلاً فلو لم يكن عليه الصلاة والسلام يعلم أن القضاء يمكن تغييره وإن ما قضى من أشراطها يمكن تبديله ما خشي صلى الله عليه وسلم من ذلك‏.‏

ومنها أن المبشرين بالجنة كانوا من أشد الناس خوفاً من النار حتى أن منهم من كان يقول‏:‏ ليت أمي لم تلدني، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول‏:‏ لو نادى مناد كل الناس في الجنة إلا واحداً لظننت أني ذلك الواحد، وهذا مما لا معنى له مع إخبار الصادق وتبشيره له بالجنة والعلم بأن القضاء لا يتغير‏.‏ ومنها أنه لولا إمكان التغيير للغا الدعاء إذ المدعو به إما أن يكون قد سبق القضاء بكونه فلا بد أن يكون وإلا فمحال أن يكون، وطلب ما لا بد أن يكون أو محال أن يكون لغو مع أنه قد ورد الأمر به، والقول بأنه لمجرد إظهار العبودية والافتقار إلى الله تعالى وكفى بذلك فائدة يأباه ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ وأيضاً أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال‏:‏ «لا ينفع الحذر من القدر ولكن الله تعالى يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر، وأخرج ابن مردويه‏.‏ وابن عساكر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَمْحُو الله مَا يَشَاء‏}‏ الآية فقال له عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ لأقرن عينك بتفسيرها ولأقرن عين أمتي بعدي بتفسيرها، الصدقة على وجهها وبر الوالدين واصطناع المعروف محول الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء ‏"‏ وهذا لا يكاد يعقل على تقدير أن القضاء لا يتغير، وفي الأخبار والآثار مما هو ظاهر في إمكان التغير ما لا يحصى كثرة، ولعل من ذلك الدعاء المار عن ابن مسعود، ثم إن القضاء المعلق يرجع في المآل إلى القضاء المبرم عند مثبته فلا يفيده التعلق بذلك في دفع ما يرد عليه، ودفع ما يرد على القول بالتغير من أنه يلزم منه التغير في ذاته تعالى لما أنه ينجر إلى تغير العلم وهو يوجب التغير في ذاته تعالى من صفة إلى أخرى أو يلزم من ذلك الجهل، وهذا مأخوذ من الشبهة التي ذكرها جمهور الفلاسفة في نفي علم الله تعالى بالجزئيات المتغيرة فإنهم قالوا‏:‏ إنه تعالى إذا علم مثلاً أن زيداً في الدار الآن ثم خرج عنها فإما أن يزول ذلك العلم ولا يعلم سبحانه أنه في الدار أو يبقى ذلك العلم بحاله، والأول يوجب التغير في ذاته سبحانه، والثاني يوجب الجهل وكلاهما نقص يجب تنزيه الله تعالى عنه بما دفعوا به تلك الشبهة، وهو ما ذكر في المواقف وشرحه من منع لزوم التغير فيه تعالى بل التغير إنما هو في الإضافات لأن العلم عندنا إضافة مخصوصة وتعلق بين العالم والمعلوم، أو صفة حقيقية ذات إضافة، فعلى الأول يتغير نفس العلم، وعلى الثاني يتغير إضافاته فقط، وعلى التقديرين لا يلزم تغير في صفة موجودة بل في مفهوم اعتباري وهو جائز‏.‏

وأجاب كثير من الأشاعرة والمعتزلة بأن العلم بأن الشيء وجد والعلم بأنه سيوجد واحد فإن من علم أن زيداً سيدخل البلد غداً فعند حصول الغد يعلم بهذا العلم بأنه دخل البلد الآن إذا كان علمه هذا مستمراً بلا غفلة مزيله له؛ وإنما يحتاج أحدنا إلى علم آخر متجدد يعلم به أنه دخل الآن لطريان الغفلة عن الأول، والباري تعالي يمتنع عليه الغفلة فكان علمه سبحانه بأنه وجد عين علمه بأنه سيوجد فلا يلزم من تغير المعلوم تغير في العلم؛ ونهاية كلامه في هذا المقام أنه يجوز أن يتغير ما في علم الله تعالى وإلا لتعين عليه سبحانه الفعل أو الترك وفيه من الحجر عليه جل جلاله ما لا يخفى، ولا يلزم من ذلك التغير سوى التغير في التعلقات وهو غير ضار، واعترض بأنه على هذا القول لا يبقى وثوق بشيء من الأخبار الغيبية كالحشر والنشر وكذا لا يبقى وثوق بالأخبار بأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين لجواز أن يكون الله تعالى قد علم ذلك حين أخبر ثم تعلق علمه بخلافه لكنه سبحانه لم يخبر ولا نقص في الإخبار الأول لأنه إخبار عما كان متعلق العلم إذ ذاك، وأيضاً يلزم من ذلك نفي نفس الأمر أو نفي كون تعلق العلم على وفقه وكلا النفيين كما ترى‏.‏ بقي الجواب عما تمسك به وهو عن بعض ظاهر وعن بعض يحتاج إلى تأمل فتأمل‏.‏ واستدل بالآية بعض الشيعة القائلين بجواز البداء على الله سبحانه وفيه ما فيه هذا‏.‏

ويخطر لي في الآية معنى لم أر من ذكره وهو أن يراد بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ‏}‏ ما ذكرناه أولاً قبل حكاية الأقوال وهو مما رواه البيهقي في المدخل‏.‏ وغيره عن ابن عباس، وابن جرير عن قتادة ويخصص ذلك بالأحكام الفرعية، ويراد بأم الكتاب الأحكام الأصلية فإنها مما لا تقبل النسخ وهي أصل لكل كتاب باعتبار أن الأحكام الفرعية التي فيه إنما تصح ممن أتى بها لكن لا يساعد على هذا المأثور عن السلف‏.‏ نعم هو مناسب للمقام كما لا يخفى، وزعم الضحاك‏.‏ والفراء أن في الآية قلباً والأصل لكل كتاب أجل‏.‏ وتعقب بأنه لا يجوز ادعاء القلب إلا في ضرورة الشعر على أنه لا داعي إليه هنا بل قد يدعي فساد المعنى عليه؛ وأياً ما كان فأل في الكتاب للجنس فهو شامل للكثير، ولهذا فره غير واحد بالجمع‏.‏ وقرأ نافع‏.‏ وابن عامر ‏{‏وَيُثَبّتْ‏}‏ بالتشديد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ‏}‏ أصله إن نريك و‏{‏مَا‏}‏ مزيدة لتأكيد معنى الشرط، ومن ثمة الحقت النون بالفعل، قال ابن عطية‏:‏ ولو كانت ‏{‏ءانٍ‏}‏ وحدها لم يجز إلحاق النون، وهو مخالف لظاهر كلام سيبويه، قال ابن خروف‏:‏ أجاز سيبويه الإتيان بما وعدم الإتيان بها والإتيان بالنون مع ‏{‏مَا‏}‏ وعدم الإتيان بها، والإراءة هنا بصرية والكاف مفعول أول وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ‏}‏ مفعول ثان، والمراد بعض الذي وعدناهم من إنزال العذاب عليهم، والعدول إلى صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو نعدم وعداً متجدداً حسب ما تقتضيه الحكمة من إنذار عقيب إنذار، وفي إيراد البعض رمز على ما قيل إلى إراءة بعض الموعود ‏{‏أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ‏}‏ قبل ذلك ‏{‏فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ‏}‏ أي تبليغ أحكام ما أنزلنا عليك وما تضمنه من الوعد والوعيد لا تحقيق مضمون الوعيد الذي تضمنه ذلك، فالمقصور عليه البلاغ ولهذا قدم الخبر، وهذا الحصر مستفاد من ‏{‏إِنَّمَا‏}‏ لا من التقديم وإلا لانعكس المعنى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَيْنَا الحساب‏}‏ الظاهر أنه معطوف على ما في حيز ‏{‏إِنَّمَا‏}‏ فيصير المعنى إنما علينا محاسبة أعمالهم السيئة والمؤاخذة بها دون جبرهم على اتباعك أو إنزال ما اقترحوه عليك من الآيات‏.‏ واعتبر الزمخشري عطفه على جملة ‏{‏إِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ‏}‏ فيصير المعنى وعلينا لا عليك محاسبة أعمالهم، قيل‏:‏ وهو الظاهر ترجيحاً للمنطوق على المفهوم إذا اجتمع دليلاً حصر، وحاصل معنى الآية كيفما دارت الحال أريناك بعض ما وعدناهم من العذاب الدنيوي أو لم نركه فعلينا ذلك وما عليك إلا التبليغ فلا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك به من الظفر ولا يضجرك تأخره فإن ذلك لما نعلم من المصالح الخفية‏.‏ وفي «البحر» عن الحوفي أنه قد تقدم في الآية شرطان ‏{‏نُرِيَنَّكَ‏}‏ لأن المعطوف على الشرط شرط، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ‏}‏ لا يصلح أن يكون جواباً للشرط الأول ولا للشرط الثاني لأنه لا يترتب على شيء منهما وهو ظاهر فيحتاج إلى تأويل، وهو أن يقدر لكل شرط منهما ما يناسب أن يكون جزاء مترتباً عليه، فيقال والله تعالى أعلم‏:‏ وإما نرينك بعض الذين نعدهم فذلك شافيك من أعدائك ودليل صدقك وإما نتوفينك قبل حلوله بهم فلا لوم عليك ولا عتب، ويكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا‏}‏ الخ دليلاً عليهما، والواقع من الشرطين هو الأول كما في بدر‏.‏

ثم إنه سبحانه طيب نفسه عليه الصلاة والسلام بطلوع تباشير الظفر فقال جل شأنه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ‏}‏ الخ، والاستفهام للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أأنكروا نزول ما وعدناهم أو أشكوا أو ألم ينظروا في ذلك ولم يروا ‏{‏أَنَّا نَأْتِى الارض‏}‏ أي أرض الكفرة ‏{‏نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا‏}‏ من جوانبها بأن نفتحها شيئاً فشيئاً ونلحقها بدار الإسلام ونذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاء أليس هذا مقدمة لذاك‏.‏

ومثل هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الارض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغالبون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 44‏]‏ وروي ذلك عن ابن عباس‏.‏ والحسن‏.‏ والضحاك‏.‏ وعطية‏.‏ والسدي‏.‏ وغيرهم، وروي عن ابن عباس أيضاً وأخرجه الحاكم عنه وصححه أن انتقاص الأرض موت أشرافها وكبرائها وذهاب العلماء منها‏.‏ وفي رواية عن أبي هريرة يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الاقتصار على الأخير، وروي أيضاً عن مجاهد، فالمراد من الأرض جنسها، والأطراف كما قيل بمعنى الإشراف، ومجىء ذلك بهذا المعنى محكي عن ثعلب، واستشهد له الواحدي بقول الفرزدق‏:‏

واسأل بنا وبكم إذا وردت مني *** أطراف كل قبيلة من يمنع

وقريب من ذلك قول ابن الأعرابي‏:‏ الطرف والطرف الرجل الكريم‏.‏ وقول بعضهم‏:‏ طرف كل شيء خياره، وجعلوا من هذا قول علي كرم الله تعالى وجهه‏:‏ العلوم أودية في أي واد أخذت منها خسرت فخذوا من كل شيء طرفاً قال ابن عطية‏:‏ أراد كرم الله تعالى وجهه خياراً؛ وأنت تعلم أن الأظهر جانباً، وادعى الواحدي أن تفسير الآية بما تقدم هو اللائق‏.‏ وتعقبه الإمام بأنه يمكن القول بلياقة الثاني، وتقرير الآية عليه أو لميروا أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خراباً بعد عمارة وموتاً بعد حياة وذلاً بعد عز ونقصاً بعد كمال وهذه تغييرات مدركة بالحس فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله تعالى الأمر عنهم فيجعلهم أذلة بعد أن كانوا أعزة ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين وهو كما ترى، وقيل‏:‏ نقصها هلاك من هلك من الأمم قبل قريش وخراب أرضهم أي ألم يروا هلاك من قبلهم وخراب ديارهم فكيف يأمنون من حلول ذلك بهم، والأول أيضاً أوفق بالمقام منه، ولا يخفى ما في التعبير بالإتيان المؤذن بعظيم الاستيلاء من الفخامة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 23‏]‏ وفي «الحواشي الشهابية» أن المعنى يأتيها أمرنا وعذابنا، وجملة ‏{‏نَنقُصُهَا‏}‏ في موضع الحال من فاعل ‏{‏يَأْتِىَ‏}‏ أو من مفعوله؛ وقرأ الضحاك ‏{‏نَنقُصُهَا‏}‏ مثقلاً من نقص عداه بالتضعيف من نقص اللازم على ما في «البحر» ‏{‏والله يَحْكُمُ‏}‏ ما يشاء كما يشاء وقد حكم لك ولأتباعك بالعز والإقبال وعلى أعدائك ومخالفيك بالقهر والإذلال حسبما يشاهده ذوو الأبصار من المخائل والآثار، وفي الالتفات من التكلم إلى الغيبة وبناء الحكم على الاسم الجليل من الدلالة على الفخامة وتربية المهابة وتحقيق مضمون الخبر بالإشارة إلى العلة ما لا يخفى، وهي جملة اعتراضية جىء بها لتأكيد فحوى ما تقدمها، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ‏}‏ اعتراض أيضاً لبيان علو شأن حكمه جل وعلا، وقيل‏:‏ هو نصب على الحال كأنه قيل‏:‏ والله تعالى يحكم نافذاً حكمه كما تقول‏:‏ جاء زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة أي حاسراً وإليه ذهب الزمخشري، قيل‏:‏ وإنما أول الجملة الاسمية بالمفرد لأن تجردها من الواو إذا وقعت حالاً غير فصيح عنده ولا يخفى عليك أن جعلها معترضة أولى وأعلى، والمعقب من يكر على الشيء فيبطله وحقيقته الذي يعقب الشيء بالإبطال، ومنه يسمى الذي يطلب حقاً من آخر معقباً لأن يعقب غريمه ويتبعه للتقاضي، قال لبيد‏:‏

حتى تهجر بالرواح وهاجها *** طلب المعقب حقه المظلوم

وقد يسمى الماطل معقباً لأنه يعقب كل طلب برد، وعن أبي علي عقبني حقي أي مطلني، ويقال للبحث عن الشيء تعقب، وجوز الراغب أن يراد هذا المعنى هنا على أن يكون الكلام نهياً للناس أن يخوضوا في البحث عن حكمه وحكمته إذا خفيت عليهم، ويكون ذلك من نحو النهي عن الخوض في سر القدر ‏{‏وَهُوَ سَرِيعُ الحساب‏}‏ فعما قليل يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة بعدما عذبهم بالقتل والأسر والإجلاء في الدنيا حسبما يرى، وكأنه قيل‏:‏ لا تستبطىء عقابهم فإنه آت لا محالة وكل آت قريب، وقال ابن عباس‏:‏ المعنى سريع الانتقام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَدْ مَكَرَ‏}‏ الكفار ‏{‏الذين‏}‏ خلوا ‏{‏مِن قَبْلِهِمُ‏}‏ من قبل كفار مكة بأنبيائهم وبالمؤمنين كما فعل هؤلاء، وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا عبرة بمكرهم ولا تأثير بل لا وجود له في الحقيقة، ولم يصرح سبحانه بذلك اكتفاءً بدلالة القصر المستفاد من تعليله أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلِلَّهِ المكر‏}‏ أي جنس المكر ‏{‏جَمِيعاً‏}‏ لا وجود لمكرهم أصلاً، إذ هو عبارة عن إيصال المكروه إلى الغير من حيث لا يشعر به وحيث كان جميع ما يأتون ويذرون بعلمه وقدرته سبحانه وإنما لهم مجرد الكسب من غير فعل ولا تأثير حسبما يبينه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ‏}‏ ومن قضيته عصمة أوليائه سبحانه وعقاب الماكرين بهم توفية لكل نفس جزاء ما كسبت ظهر أن ليس لمكرهم بالنسبة إلى من مكروا بهم عين ولا أثر وإن المكر كله لله تعالى حيث يؤاخذهم بما كسبوا من فنون المعاصي التي من جملتها مكرهم من حيث لا يحتسبون، كذا قاله شيخ الإسلام، وقد تكلف قدس سره في ذلك ما تكلف، وحمل الكسب على ما هو الشائع عند الأشاعرة والله تعالى لا يفرق بينه وبين الفعل وكذا رسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله تعالى عنهم والتابعون واللغويون؛ وقيل‏:‏ وجه الحصر أنه لا يعتد بمكر غيره سبحانه لأنه سبحانه هو القادر بالذات على إصابة المكروه المقصود منه وغيره تعالى إن قدر على ذلك فبتمكينه تعالى وإذنه فالكل راجع إليه جل وعلا‏.‏ وفي «الكشاف» أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ‏}‏ الخ تفسير لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا‏}‏ لأن من علم ما تكسب كل نفس وأعدلها جزاءها فهو له المكر لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون وهم في غفلة مما يراد بهم، وقيل‏:‏ الكلام على حذف مضاف أي فلله جزاء المكر‏.‏ وجوز في أل أن تكون للعهد أي له تعالى المكر الذي باشروه جميعاً لا لهم، على معنى أن ذلك ليس مكراً منهم بالأنبياء بل هو بعينه مكر من الله تعالى بهم وهم لا يشعرون حيث لا يحيق المكر السيء إلا بأهله ‏{‏وَسَيَعْلَمُ الكفار‏}‏ حين يأتيهم العذاب ‏{‏لِمَنْ عُقْبَى الدار‏}‏ أي العاقبة الحميدة من الفريقين وإن جهل ذلك قبل، وقيل‏:‏ السين لتأكيد وقوع ذلك وعلمه به حينئذٍ، والمراد من الكافر الجنس فيشمل سائر الكفار، وهذه قراءة الحرميين‏.‏ وأبي عمرو، وقرأ باقي السبعة ‏{‏وَسَيَعْلَمُ الكفار‏}‏ بصيغة جمع التكسير‏.‏

وقرأ ابن مسعود ‏{‏الكافرون‏}‏ بصيغة جمع السلامة، وقرأ أبي ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ وقرأ ‏{‏الكفر‏}‏ أي أهله، وقرأ جناح بن حبيس ‏{‏وَسَيَعْلَمْ‏}‏ بالبناء للمفعول من أعلم أي سيخبر واللام للنفع، وجوز أن تكون للملك على معنى سيعلم الكفرة من يملك الدنيا آخراً، وفسر عطاء ‏{‏الكافر‏}‏ بالمستهزئين وهم خمسة والمقسمين وهم ثمانية وعشرون، وقال ابن عباس‏:‏ يريد بالكافر أبا جهل، وما تقدم هو الظاهر، ولعل ما ذكر من باب التمثيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً‏}‏ قيل‏:‏ قاله رؤساء اليهود‏.‏

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏ قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقف من اليمن فقال له عليه الصلاة والسلام‏:‏ هل تجدني في الإنجيل رسولاً‏؟‏ قال‏:‏ لا ‏"‏ فأنزل الله تعالى الآية، فالمراد من الذين كفروا على هذا هذا ومن وافقه ورضي بقوله، وصيغة الاستقبال لاستحضار صورة كلمتهم الشنعاء تعجيباً منها أو للدلالة على تجدد ذلك منهم واستمراره ‏{‏قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ فإنه جل وعلا قد أظهر على رسالتي من الأدلة والحجج ما فيه غني عن شهادة شاهد آخر، وتسمية ذلك شهادة مع أنه فعل وهي قول مجاز من حيث أنه يغني غناها بل هو أقوى منها ‏{‏وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب‏}‏ أي علم القرآن وما عليه من النظم المعجز، قيل‏:‏ والشهادة إن أريد بها تحملها فالأمر ظاهر وإن أريد أداؤها فالمراد بالموصول المتصف بذلك العنوان من ترك العناد وآمن‏.‏

وفي «الكشف» أن المعنى كفى هذا العالم شهيداً بيني وبينكم، ولا يلزم من كفايته في الشهادة أن يؤديها فمن أداها فهو شاهد أمين ولم لم يؤدها فهو خائن، وفيه تعريض بليغ بأنهم لو أنصفوا شهدوا، وقيل‏:‏ المراد ‏{‏بالكتاب‏}‏ التوراة والإنجيل، والمراد بمن عنده علم ذلك الذين أسلموا من أهل الكتابين كعبد الله بن سلام‏.‏ وإضرابه فإنهم يشهدون بنعته عليه الصلاة والسلام في كتابهم وإلى هذا ذهب قتادة، فقد أخرج عبد الرزاق‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر عنه أنه قال في الآية‏:‏ كان من أهل الكتاب قوم يشهدون بالحق ويعرفونه منهم عبد الله بن سلام‏.‏ والجارود‏.‏ وتميم الداري‏.‏ وسلمان الفارسي، وجاء عن مجاهد‏.‏ وغيره وهي رواية عن ابن عباس أن المراد بذلك عبد الله ولم يذكروا غيره‏.‏

وأخرج ابن مردويه من طريق عبد الملك بن عمير عن جندب قال‏:‏ جاء عبد الله بن سلام حتى أخذ بعضادتي باب المسجد ثم قال‏:‏ أنشدكم بالله تعالى أتعلمون أني الذي أنزلت فيه ‏{‏وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب‏}‏‏؟‏ قالوا‏:‏ اللهم نعم‏.‏ وأنكر ابن جبير ذلك، فقد أخرج سعيد بن منصور وجماعة عنه أنه سئل أهذا الذي عنده علم الكتاب هو عبد الله بن سلام‏؟‏ فقال‏:‏ كيف وهذه السورة مكية‏.‏ والشعبي أنكر أن يكون شيء من القرآن نزل فيه وهذا لا يعول عليه فمن حفظ حجة على من لم يحفظ، وأجيب عن شبهة ابن جبير بأنهم قد يقولون‏:‏ إن السورة مكية وبعض آياتها مدنية فلتكن هذه من ذلك، وأنت تعلم أنه لا بد لهذا من نقل‏.‏

وفي «البحر» أن ما ذكر لا يستقيم إلا أن تكون هذه الآية مدنية والجمهور على أنها مكية، وأجيب بأن ذلك لا ينافي كون الآية مكية بأن يكون الكلام إخباراً عما سيشهد به، ولك أن تقول‏.‏

إذا كان المعنى على طرز ما في «الكشف» وأنه لا يلزم من كفاية من ذكر في الشهادة أداؤها لم يضر كون الآية مكية وعدم إسلام عبد الله بن سلام حين نزولها بل ولا عدم حضوره، ولا مانع أن تكون الآية مكية، والمراد من الذين كفروا أهل مكة ‏{‏وَمِمَّن عِندَهُ عِلْمُ الكتاب‏}‏ اليهود والنصارى كما أخرجه ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس ويكون حاصل الجواب بذلك إنكم لستم بأهل كتاب فاسألوا أهله فإنهم في جواركم‏.‏ نعم قال شيخ الإسلام‏:‏ إن الآية مدنية بالاتفاق وكأنه لم يقف على الخلاف، وقيل‏:‏ المراد بالكتاب اللوح و‏{‏مِنْ‏}‏ عبارة عنه تعالى؛ وروي هذا عن مجاهد‏.‏ والزجاج، وعن الحسن لا والله ما يعني إلا الله تعالى، والمعنى كما في الكشاف كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو شهيداً بيني وبينكم، وبهذا التأويل صار العطف مثله في قوله‏:‏

إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم

فلا محذور في العطف، والحصر إما من الخارج لأن علم ذلك مخصوص به تعالى أو للذهاب إلى أن الظرف خبر مقدم فيفيد الحصر‏.‏ وقسم الحسن للمبالغة في رد ما زعموا على ما قيل‏:‏ وفي «الكشف» إنما بالغ الحسن لما قدمنا من بناء السورة الكريمة على ما بنى وجعل السابقة مثل الخاتمة وما في العطف من النكتة، ولهذا فسره الزمخشري بقوله‏:‏ كفى بالذي الخ عطفه عطف ذات على ذات إشارة إلى الاستقلال بالشهادة من كل واحد من الوصفين من غير نظر إلى الآخر فالذي يستحق العبادة قد شهد بما شحن الكتاب من الدعوة إلى عبادته وبما أيد عبده من عنده بأنواع التأييد والذي لا يعلم علم ما في اللوح أي علم كل شيء إلا هو قد شهد بما ضمن الكتاب من المعارف وأنزله على أسلوب فائق على المتعارف، ويعضد ذلك القول أنه قرأ علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وأبي‏.‏ وابن عباس‏.‏ وعكرمة‏.‏ وابن جبير‏.‏ وعبد الرحمن بن أبي بكرة‏.‏ والضحاك‏.‏ وسالم بن عبد الله بن عمر‏.‏ وابن أبي إسحاق‏.‏ ومجاهد‏.‏ والحكم‏.‏ والأعمش ‏{‏وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب‏}‏ يجعل من حرف جر والجار والمجرور خبر مقدم وعلم مبتدأ مؤخر‏.‏

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه أيضاً‏.‏ وابن السميقع‏.‏ والحسن بخلاف عنه ‏{‏وَمَنْ عِندَهُ‏}‏ بحرف الجر و‏{‏عِلْمُ الكتاب‏}‏ على أن علم فعل مبني للمفعول و‏{‏الكتاب‏}‏ نائب الفاعل فإن ضمير ‏{‏عِندَهُ‏}‏ على القراءتين راجع لله تعالى كما في القراءة السابقة على ذلك التأويل والأصل توافق القراآت، وقيل‏:‏ المراد بالكتاب اللوح ‏{‏وَبِمَن‏}‏ جبريل عليه السلام‏.‏

وأخرج تفسير ‏{‏مِنْ‏}‏ بذلك ابن أبي حاتم عن ابن جبير وهو كما ترى‏.‏

وقال محمد بن الحنفية‏.‏ والباقر كما في «البحر»‏:‏ المراد ‏{‏بِمَنِ‏}‏ علي كرم الله تعالى وجهه، والظاهر أن المراد ‏{‏بالكتاب‏}‏ حينئذٍ القرآن، ولعمري أن عنده رضي الله تعالى عنه علم الكتاب كملاً لكن الظاهر أنه كرم الله تعالى وجهه غير مراد، والظاهر أن ‏{‏مِنْ‏}‏ في قراءة الجمهور في محل جر بالعطف على لفظ الاسم الجليل، ويؤيده أنه قرىء بإعادة الباء في الشواذ، وقيل‏:‏ إنه في محل رفع بالعطف على محله لأن الباء زائدة، وقال ابن عطية‏:‏ يحتمل أن يكون في موضع رفع على الإبتداء والخبر محذوف تقديره أعدل أو أمضى قولاً أو نحو هذا مما يدل عليه لفظ ‏{‏شَهِيداً‏}‏ ويراد بذلك الله تعالى، وفيه من البعد ما لا يخفى، والعلم في القراءة التي وقع ‏{‏عِندَهُ‏}‏ فيها صلة مرفوع بالمقدر في الظرف؛ فيكون فاعلاً لأن الظرف إذا وقع صلة أو غل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول فعمل عمل الفعل كقولك‏:‏ مررت بالذي في الدار أخوه فأخوه فاعل كما تقول‏:‏ بالذي استقر في الدار أخوه قاله الزمخشري، وليس بالمتحتم لأن الظرف وشبهه إذا وقعا صلتين أو صفتين أو حالين أو خبرين أو تقدمهما أداة نفي أو استفهام جاز فيما بعدهما من الاسم الظاهر أن يرتفع على الفاعلية وهو الأجوز وجاز أن يكون مبتدأ والظرف أو شبهه في موضع الخبر والجملة من المبتدا والخبر صلة أو صفة أو حال أو خبر، وهذا مبني على اسم الفاعل فكما جاز ذلك فيه وإن كان الأحسن أعماله في الاسم الظاهر فكذلك يجوز فميا ناب عنه من ظرف أو مجرور، وقد نص سيبويه على إجازة ذلك في نحو مررت برجل حسن وجهه فأجاز رفع حسن على أنه خبر مقدم، وقد توهم بعضهم أن اسم الفاعل إذا اعتمد على شيء مما ذكر تحتم أعماله في الظاهر وليس كذلك، وقد أعرب الحوفي ‏{‏عِندَهُ عِلْمُ الكتاب‏}‏ مبتدأ وخبراً في صلة ‏{‏مِنْ‏}‏ وهو ميل إلى المرجوح، وفي الآية على القراءتين بمن الجارة دلالة على أن تشريف العبد بعلوم القرآن من إحسان الله تعالى إليه وتوفيقه، نسأل الله تعالى أن يشرفنا بهاتيك العلوم ويوفقنا للوقوف على أسرار ما فيه من المنطوق والمفهوم ويجعلنا ممن تمسك بعروته الوثقى واهتدى بهداه حتى لا يضل ولا يشقى ببركة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

هذا ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 20‏]‏ قيل‏:‏ عهد الله تعالى مع المؤمنين القيام له سبحانه بالعبودية في السراء والضراء ‏{‏والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ‏}‏ فيصلون بقلوبهم محبته وبأسرارهم مشاهدته سبحانه وقربته ‏{‏وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ‏}‏ عند تجلي الصفات في مقام القلب فيشاهدون جلالة صفة العظمة ويلزمهم الهيبة والخشية

‏{‏وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 21‏]‏ عند تجلي الأفعال في مقام النفس فينظرون إلى البطش والعقاب فيلزمهم الخوف‏.‏

وسئل ابن عطاء ما الفرق بين الخشية والخوف‏؟‏ فقال‏:‏ الخشية من السقوط عن درجات الزلفى والخوف من اللحوق بدركات المقت والجفا، وقال بعضهم‏:‏ الخشية أدق والخوف أصلب ‏{‏وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِمْ‏}‏ صبروا عما دون الله تعالى بالله سبحانه لكشف أنوار وجهه الكريم أو صبروا في سلوك سبيله سبحانه عن المألوفات طلباً لرضاه ‏{‏والذين يُمَسّكُونَ‏}‏ صلاة المشاهدة أو اشتغلوا بالتزكية بالعبادات البدنية ‏{‏وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً‏}‏ أفادوا مما مننا عليهم من الأحوال والمقامات والكشوف وهذبوا المريدين حتى صار لهم ظاهراً وباطناً أو اشتغلوا بالتزكية بالعبادات المالية أيضاً ‏{‏وَيَدْرَءونَ بالحسنة‏}‏ الحاصلة لهم من تجلي الصفة الإلهية السنية ‏{‏السيئة‏}‏ التي هي صفة النفس، وقال بعضهم‏:‏ يعاشرون الناس بحسن الخلق فإن عاملهم أحد بالجفاء قابلوه بالوفاء ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ عقبى الدار‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 22‏]‏ البقاء بعد الفناء أو العاقبة الحميدة ‏{‏جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وأزواجهم وَذُرّيَّاتِهِمْ‏}‏ قيل‏:‏ يدخلون جنة الذات ومن صلح من آباء الأرواح ويدخلون جنة الصفات بالقلوب ويدخلون جنة الأفعال ومن صلح من أزواج النفوس وذريات القوى أو يدخلون جنات القرب والمشاهدة والوصال ومن صلح من المذكورين تبع لهم ولأجل عين ألف عن تكرم ‏{‏والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 23‏]‏ ‏{‏سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 24‏]‏ يدخل عليهم أهل الجبروت والملكوت من كل باب من أبواب الصفات محيين لهم بتحايا الإشراقات النورية والإمدادات القدسية أو يدخل عليهم الملائكة الذي صحبوهم في الدنيا من كل باب من أبواب الطاعة مسلمين عليهم بعد استقرارهم في منازلهم كما يسلم أصحاب الغائب عليه إذا قدم إلى منزله واستر فيه ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ الايمان العلمي بالغيب ‏{‏وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله‏}‏ قالوا‏:‏ ذكر النفس باللسان والتفكر في النعم، وذكر القلب بالتفكر في الملكوت ومطالعة صفات الجمال، وذكر السر بالمناجاة، وذكر الروح بالمشاهدة، وذكر الخفاء بالمناغاة في العشق، وذكر الله تعالى بالفناء فيه ‏{‏أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 28‏]‏ وذلك أن النفس تضطرب بظهور صفاتها وأحاديثها وتطيش فيتلون القلب ويتغير لذلك فإذا تفكر في الملكوت ومطالعة أنوار الجمال والجبروت استقر واطمأن، وسائر أنواع الذكر إنما يكون بعد الاطمنان، قال الهزجوري‏:‏ قلوب الأولياء مطمئنة لا تتحرك دائماً خشية أن يتجلى الله تعالى عليها فجأة فيجدها غير متسمة بالأدب ‏{‏الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ تخلية وتحلية ‏{‏طوبى لَهُمْ‏}‏ بالوصول إلى الفطرة وكمال الصفات

‏{‏وَحُسْنُ مَئَابٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 29‏]‏ بالدخول في جنة القلب وهي جنة الصفات أو طوبى لهم الآن حيث لم يوجد منهم ما يخالف رضاء محبوبهم وحسن مآب في الآخرة حيث لا يجدون من محبوبهم خلاف مأمولهم ‏{‏أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 33‏]‏ أي بحسب كسبها ومقتضاه أي كما تقتضي مكسوباتها من الصفات والأحوال التي تعرض لاستعدادها يفيض عليها من الجزاء ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله وَلا أُشْرِكَ بِهِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 36‏]‏ ما أخرج سبحانه أحداً من العبودية حتى سيد أحرار البرية صلى الله عليه وسلم، وفسرها أبو حفص بأنها ترك كل ملك وملازمة المأمور به‏.‏

وقال الجنيد قدس سره‏:‏ لا يرتقي أحد في درجات العبودية حتى يحكم فيما بينه وبين الله تعالى أوائل البدايات وهي الفروض والواجبات والسنن والأوراد، ومطايا الفضل عزائم الأمور فمن أحكم على نفسه هذا من الله تعالى عليه بما بعده ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً‏}‏ فيه على ما قيل إشارة إلى أنه إذا شرف الله تعالى شخصاً بولايته لم يضر به مباشرة أحكام البشرية من الأهل والولد ولم يكن بسط الدنيا له قدحاً في ولايته، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏ فيه منع طلب الكرامات واقتراحها من المشايخ ‏{‏لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 38‏]‏ لكل وقت أمر مكتوب يقع فيه ولا يقع في غيره؛ ومن هنا قيل‏:‏ الأمور مرهونة لأوقاتها، وقيل‏:‏ لله تعالى خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص ‏{‏يَمْحُو الله‏}‏ ما يشاء ويثبت‏}‏ قيل‏:‏ يمحو عن ألواح العقول صور الأفكار ويثبت فيها أنوار الأذكار ويمحو عن أوراق القلوب علوم الحدثان ويثبت فيها لدنيات علم العرفان، وقيل‏:‏ يمحو العارفين بكشف جلاله ويثبتهم في وقت آخر بلطف جماله، وقال ابن عطاء‏:‏ يمحو أوصافهم ويثبت أسرارهم لأنها موضع المشاهدة، وقيل‏:‏ يمحو ما يشاء عن الألواح الجزئية التي هي النفوس السماوية من النقوش الثابتة فيها فيعدم عن المواد ويفنى ويثبت ما يشاء فيها فيوجد ‏{‏وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 39‏]‏ العلم الأزلي القائم بذاته سبحانه، وقيل‏:‏ لوح القضاء السابق الذي هو عقل الكل وفيه كل ما كان ويكون أزلاً وأبداً على الوجه الكلي المنزه عن المحو والاثبات، وذكروا أن الألواح أربعة‏.‏ لوح القضاء السابق العالي عن المحو والإثبات وهو لوح العقل الأول‏.‏ ولوح القدر وهو لوح النفس الناطقة الكلية التي يفصل فيها كليات اللوح الأول وهو المسمى باللوح المحفوظ‏.‏ ولوح النفس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم بشكله وهيئته ومقداره وهو المسمى بالسماء الدنيا وهو بمثابة خيال العالم كما أن الأول بمثابة روحه والثاني بمثابة قلبه‏.‏ ثم لوح الهيولي القابل للصور في عالم الشهادة اه وهو كلام فلسفي ‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الارض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا‏}‏ قيل‏:‏ ذلك بذهاب أهل الولاية الذي بهم عمارة الأرض، وقيل‏:‏ الإشارة أنا نقصد أرض وقت الجسد الشيخوخة ننقصها من أطرافها بضعف الأعضاء والقوى الظاهرة والباطنة شيئاً فشيئاً حتى يحصل الموت أو نأتي أرض النفس وقت السلوك ننقصها من أطرافها بإفناء أفعالها بأفعالنا أولاً وبإفناء صفاتها بصفاتنا ثانياً وبافناء ذاتها في ذاتنا ثالثاً ‏{‏لاَ مُعَقّبَ لحكمه‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 41‏]‏ لا راد ولا مبدل لكل ما حكم به نسأل الله تعالى أن يحكم لنا بما هو خير وأولى لي الآخرة والأولى بحرمة النبي صلى الله عليه وسلم وشرف وعظم وكرم‏.‏

‏[‏سورة إبراهيم‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم‏}‏ مر الكلام فيما يتعلق به ‏{‏كتاب‏}‏ جوز فيه أن يكون خبراً لألر على تقدير كونه مبتدأ أو لمبتدأ مضمر على تقدير كونه خبراً لمبتدأ محذوف أو مفعولاً لفعل محذوف أو مسروداً على نمط التعديد، وجوز أن يكون خبراً ثانياً للمبتدأ الذي أخبر عنه بالر وأن يكون مبتدأ وسوغ به كونه موصوفاً في التقدير أي كتاب عظيم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنزلناه إِلَيْكَ‏}‏ إما في موضع الصفة أو الخبر وهو مع مبتدآته قيل في موضع التفسير، وفي إسناد الإنزال إلى ضمي العظمة ومخاطبته عليه الصلاة والسلام مع إسناد الإخراج إليه صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور‏}‏ ما لا يخفى من التفخيم والتعظيم، واللام متعلقة ‏{‏بأنزلناه‏}‏، والمراد من الناس جميعهم أي أنزلناه إليك لتخرجهم كافة بما في تضاعيفه من البينات الواضحة المفصحة عن كونه من عند الله تعالى الكاشفة عن العقائد الحقة من عقائد الكفر والضلال وعبادة الله عز وجل من الآلهة المختلفة كالملاكئة وخواص البشر والكواكب والأصنام التي كلها ظلمات محضة وجهالات صرفة إلى الحق المؤسس على التوحيد الذي هو نور بحت وقرىء ‏{‏مبينات لّيُخْرِجَ‏}‏ بالياء التحتانية في ‏{‏يَخْرُجُ‏}‏ ورفع ‏{‏الناس‏}‏ به ‏{‏بِإِذْنِ رَبّهِمْ‏}‏ أي بتيسيره وتوفيقه تعالى وهو مستعار من الاذن الذي يوجب تسهيل الحجاب لمن يقصد الورود، ويجوز أن يكون مجازاً مرسلاً بعلاقة اللزوم، وقال محيى السنة‏:‏ إذنه تعالى أمره، وقيل‏:‏ علمه وقيل‏:‏ إرادته جل شأنه وهي ما قيل متقاربة، ومنع الإمام أن يراد بذلك الأمر أو العلم وعلله بما لا يخلو عن نظر‏.‏ وفي الكلام على ما ذكر أولاً ثلاث استعارات‏.‏ إحداها ما سمعت في الاذن والأخريان في ‏{‏الظلمات‏}‏ و‏{‏النور‏}‏ وقد أشير إلى المراد منهما، وجوز العلامة الطيبي أن تكون كلها استعارة مركبة تمثيلية بتصوير الهدى بالنور والضلال بالظلمة والمكلف المنغمس في ظلمة الكفر بحيث لا يتسهل له الخروج إلى نور الايمان إلا بتفضل الله تعالى بإرسال رسول بكتاب يسهل عليه ذلك كمن وقع في تيه مظلم ليس منه خلاص فبعث ملك توقيعاً لبعض خواصه في استخلاصه وضمن تسهيل ذلك على نفسه ثم استعمل هنا ما كان مستعملاً هناك فقيل‏:‏ توقيعاً لبعض خواصه في استخلاصه وضمن تسهيل ذلك على نفسه ثم استعمل هنا ما كان مستعملاً هناك فقيل‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أنزلناه‏}‏ إلى آخره، وكان الظاهر بإذننا إلا أنه وضع ذلك الظاهر موضع الضمير، وقيل‏:‏ ‏{‏رَّبُّهُمْ‏}‏ للإشعار بالتربية واللطف والفضل وبأن الهداية لطف محض، وفيه أن الكتاب والرسول والدعوة لا تجدي دون إذن الله تعالى كما قال سبحانه‏:‏

‏{‏إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏ اه، وما ذكره من الاستعارة التمثيلية مع بلاغته وحسنه لا يخلو عن بعد، وكأنه للأنباء عن كون التيسير والتوفيق منوطين بالإقبال إلى الحق كما يفصح عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَهْدِى إِلَيْهِ مِنَ أَنَابَ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 27‏]‏ استعير لذلك الاذن الذي هو ما علمت، وأضيف إلى ضمير الناس اسم الرب المفصح عن التربية التي هي عبارة عن تبليغ الشيء إلى كماله المتوجه إليه، وشمول الاذن بذلك المعنى للكل واضح وعليه يدور كون الإنزال لإخراجهم جميعاً، وعدم تحقق الاذن بالفعل في بعضهم لعدم تحقق شرطه المستند إلى سوء اختيارهم ورداءة استعدادهم غير مخل بذلك، ومن هنا فساد قول القطبرسي‏:‏ إن اللام لام الغرض لا لام العاقبة والإلزام أن يكون جميع الناس مؤمنين والواقع بخلافه، وذكر الإمام أن المعتزلة استدلوا بهذه الآية على أن أفعال الله تعالى تعلل برعاية المصالح، ثم ساق دليل أصحابه على امتناع ذلك وذكر أنه إذا ثبت الامتناع يلزم تأويل كل ما أشعر بخلافه وتأويله بحمل اللام على لام العاقبة ونحوها، ونقل عن ابن القيم‏.‏ وغيره القول بالتعليل وأنه مذهب السلف وأن في الكتاب والنسة ما يزيد على عشرة آلاف موضع ظاهرة في ذلك وتأويل الجميع خروج عن الإنصاف، وليس الدليل على امتناع ذلك من المتانة على وجه يضطر معه إلى التويل، وللشيخ إبراهيم الكوراني في بعض رسائله كلام نفيس في هذا الغرض سالم فيما أرى عن العلة إن أردته فارجع إليه، والباء متعلقة بتخرج على ما هو الظاهر، وجوز أن يكون متعلقاً بمضمر وقع حالاً من مفعوله أي ملتبسين بإذن ربهم، ومنهم من جوز كونه حالاً من فاعله أي ملتبساً بإذن ربهم‏.‏ وتعقب بأنه يأباه إضافة الرب إليهم لا إليه صلى الله عليه وسلم‏.‏ ورود بما رد فتأمل‏.‏ واستدل بالآية القائلون بأن معرفة الله تعالى لا تحصل إلا من طريق التعليم من الرسول صلى الله عليه وسلم حيث ذكر فيها أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي يخرج الناس من ظلمات الضلال إلى نور الهدى‏.‏ وأجيب بأن الرسول عليه الصلاة والسلام كالمنبه وأما المعرفة فإنما تحصل من الدليل، واستدل بها أيضاً كل من المعتزلة وأهل السنة على مذهبه في أفعال العباد وتفضيل ذلك في تفسير الإمام‏.‏

‏{‏إلى صِرَاطِ العزيز الحميد‏}‏ الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور فيما تقدم أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَى النور‏}‏ وقال غير واحد‏:‏ إن ‏{‏صراط‏}‏ بدل من ‏{‏النور‏}‏ وأعيد عامله وكرر لفظاً ليدل على البدلية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 75‏]‏ ولا يضر الفصل بين البدل والمبدل منه بما قبله لأنه غير أجنبي إذ هو من معمولات العامل في المبدل منه على كل حال‏.‏

واستشكل هذا مع الاستعارة السابقة بأن التعقيب بالبدل لا يتقاعد عن التعقيب بالبيان في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الابيض مِنَ الخيط الاسود مِنَ الفجر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ وأجيب بأن الصراط استعارة أخرى للهدى جعل نوراً أولاً لظهوره في نفسه واستضاءة الضلال في مهواة الهوى به، ثم جعل ثانياً جادة مسلوكة مأمونة لا كبنيات الطرق دلالة على تمام الإرشاد‏.‏

وفي الإرشاد أن إخلال البيان والبدل بالاستعارة إنما هو في الحقيقة لا في المجاز وهو ظاهر، وجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقاً بمحذوف على أنه جواب سائل يسأل إلى أي نور‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏إلى صراط‏}‏ إلى آخره، وإضافة الصراط إليه تعالى لأنه مقصده أو المبين له، وتخصيص الوصفين الجليلين بالذكر للترغيب في سلوكه إذ في ذلك إشارة إلى أنه يعز سالكه ويحمد سابله، وقال أبو حيان‏:‏ النكتة في ذلك أنه لما ذكر قبل إنزاله تعالى لهذا الكتاب وإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ناسب ذكر هاتين الصفتين صفة العزة المتضمنة للقدرة والغلبة لإنزاله مثل هذا الكتاب المعجز الذي لا يقدر عليه سواه، وصفة الحمد لإنعامه بأعظم النعم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ووجه التقديم والتأخير على هذا ظاهر‏.‏

وقال الإمام‏:‏ إنما قدم ذكر ‏{‏العزيز‏}‏ على ذكر ‏{‏الحميد‏}‏ لأن الصحيح أن أول العلم بالله تعالى العلم بكونه تعالى قادراً ثم بعد ذلك العلم بكونه عالماً ثم بعد ذلك العلم بكونه غنياً عن الحاجات، والعزيز هو القادر والحميد هو العالم الغني فلما كان العلم بكونه تعالى قادراً متقدماً على العلم بكونه عالماً بالكل غنياً عنه لا جرم قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد اه ولم نر تفسير ‏{‏الحميد‏}‏ بما ذكر لغيره، وفي المواقف وشرح أسماء الله تعالى الحسنى لحجة الإسلام الغزالي وغيرهما أن ‏{‏الحميد‏}‏ هو المحمود المثنى عليه وهو سبحانه محمود بحمده لنفسه أزلاً وبحمد عباده له تعالى أبداً، وبين هذا وما ذكره الإمام بعد بعيد، وأما ما ذكره في ‏{‏العزيز‏}‏ فهو قول لبعضهم؛ وقيل‏:‏ هو الذي لا مثل له‏.‏

وربما يقال على هذا‏:‏ إن التقديم للاعتناء بالصفات السلبية كما يؤذن به قولهم‏:‏ التخلية أولى من التحلية وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ السميع البصير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ ولعل كلامه قدس سره بعد لا يخلو عن نظر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ‏(‏2‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهِ‏}‏ بالرفع على ما قرأ نافع‏.‏ وابن عمر خبر مبتدأ محذوف أي هو الله والموصول الآتي صفته، وبالجر على قراءة باقي السبعة‏.‏ والأصمعي عن نافع بدل مما قبله في قول ابن عطية‏:‏ والحوفي‏.‏ وأبي البقاء، وعطف بيان في قول الزمخشري قال‏:‏ لأنه أجرى مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود بحق كما غلب النجم على الثريا، ولعل جعله جارياً مجرى ذلك ليس لاشتراطه في عطف البيان بل لأن عطف البيان شرطه إفادة زيادة إيضاح لمتبوعه وهي هنا بكونه كالعلم باختصاصه بالمعبود بحق وقد خرج عن الوصفية بذلك فليس صفة كالعزيز الحميد‏.‏

ثم أنه لا يخفى عليك أنه عند الأئمة المحققين علم لا أنه كالعلم، وعن ابن عصفور أنه لا تقدم صفة على موصوف إلا حيث سمع وذلك قليل، وللعرب فيما وجد من ذلك وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن تقدم الصفة وتبقيها على ما كانت عليه، وفي إعراب مثل هذا وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ إعرابه نعتاً مقدماً‏.‏ والثاني‏:‏ أن يجعل ما بعد الصفة بدلاً، والوجه الثاني‏:‏ أن تضيف الصفة إلى الموصوف اه، وعلى هذا يجوز أن يكون ‏{‏العزيز الحميد‏}‏ ‏[‏ابراهيم‏:‏ 1‏]‏ صفتين متقدمتين ويعرب الاسم الجليل موصوفاً متأخراً، ومما جاء فيه تقديم ما لو أخر لكان صفة وتأخير ما لو قدم لكان موصوفاً قوله‏:‏

والمؤمن العائذات الطير يمسحها *** ركبان مكة بين الغيل والسعد

فلو جاء على الكثير لكان التركيب والمؤمن الطير العائذات، ومثله قوله‏:‏

لو كنت ذا نبل وذا تشديب *** لم أخش شدات الخبيث الذيب

وجوز في قراءة الرفع كون الاسم الجليل مبتدأ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذى لَهُ‏}‏ أي ملكاً وملكاً ‏{‏مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض‏}‏ خبره وما تقدم أولى، فإن في الوصفية من بيان كمال فخامة شأن الصراط وإظهار تحتم سلوكه على الناس ما ليس في الخبرية، والمراد بما في السموات وما في الأرض ما وجد داخلاً فيهما أو خارجاً عنهما متمكناً فيهما، ومن الناس من استدل بعموم ‏{‏مَا‏}‏ على أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى كما ذكره الإمام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَيْلٌ للكافرين‏}‏ وعيد لمن كفر بالكتاب ولم يخرج به من الظلمات إلى النور بالويل‏.‏

وهو عند بعض نقيض الوأل بالهمز بمعنى النجاة فمعناه الهلاك فهو مصدر إلا أنه لا يشتق منه فعل إنما يقال‏:‏ ويلا له فينصب نصب المصادر ثم يرفع رفعها لإفادة معنى الثبات فيقال‏:‏ ويل له كسلام عليك، وقال الراغب‏:‏ قال الأصمعي ويل قبوح وقد يستعمل للتحسر، وويس استصغتر، وويح ترحم، ومن قال‏:‏ هو واد في جهنم لم يرد أنه في اللغة موضوع لذلك وإنما أراد أن من قال الله تعالى فيه ذلك فقد استحق مقراً من النار وثبت له ذلك، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ‏}‏ في موضع الصفة لويل ولا يضر الفصل على ما في «البحر» وغيره بالخبر، وجوز أن يكون في موضع الحال على ما في الحواشي الهشابية و‏{‏مِنْ‏}‏ بيانية، وجوز أن تكون ابتدائية على معنى أن الويل بمعنى عدم النجاة متصل بالعذاب الشديد وناشيء عنه، وقيل إن الجار متعلق‏:‏ بويل على معنى أنهم يولولون من العذاب ويضجون منه قائلين يا ويلاه كقوله تعالى‏:‏

‏{‏دَعَوْاْ هُنَالِكَ لَكَ *ثُبُوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 13‏]‏ ومنع أبو حيان وأبو البقاء ذلك لما فيه من الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر وهو لا يجوز، وقد مر قريباً في الرعد ما يتعلق بذلك فتذكر فما في العهد من قدم‏.‏ وفي «الكشاف» أن ‏{‏مِنْ عَذَابِ‏}‏ الخ متصل بالويل على معنى أنهم يولولون إلى آخر ما ذكرنا، وهو محتمل لتعلقه به ولتعلقه بمحذوف، واستظهر هذا في «البحر»‏.‏ وفي «الكشف» أن الزمخشري لما رأى أن الويل من الذنوب لا من العذاب كما يرشد إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 79‏]‏ وأمثاله أشار هنا إلى أن الاتصال معنوي لا من ذلك الوجه فإنه هناك جعل الويل نفس العذاب وهنا جعله تلفظهم بكلمة التلهف من شدة العذاب وكلاهما صحيح، ولم يرد أن هنالك فصلاً بالخبر لقرب ما مر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 24‏]‏ اه‏.‏

واعترض عليه بأنه لا حاجة لما ذكر من التكلف لأن اتصاله به ظاهر لا يحتاج إلى صرفه للتلفظ بتلك الكلمة، و‏{‏مِنْ‏}‏ بيانية لا إبتدائية حتى يحتاج إلى ما ذكر، ولا يخفى قوة ذلك وأنه لا يحتاج إلى التكلف ولو جعلت ‏{‏مِنْ‏}‏ ابتدائية فتأمل، والظاهر أن المراد بالعذاب الشديد عذاب الآخرة، وجوز أن يكون المراد عذاباً يقع بهم في الدنيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الاخرة‏}‏ أي يختارونها عليها فإن المختار للشيء يطلب من نفسه أن يكون أحب إليه من غيره، فالسين للطلب، والمحبة مجاز مرسل عن الاختيار والإيثار بعلاقة اللزوم في الجملة فلا يضر وجود أحدهما بدون الآخر كاختيار المريض الدواء المر لنفعه وترك ما يحبه ويشتهيه من الأطعمة اللذيذة لضرره، ولاعتبار التجوز عدى الفعل بعلى ويجوز أن يكون استفعل بمعنى أفعل كاستجاب بمعنى أجاب والفعل مضمن معنى الاختيار والتعدية بعلى لذلك ‏{‏وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ يعوقون الناس ويمنعونهم عن دين الله تعالى والإيمان به وهو الصراط الذي بين شأنه، والاقتصار على الإضافة إلى الاسم الجليل المنطوي على كل وصف جميل لزوم الاختصار‏.‏

وقرأ الحسن ‏{‏يَصِدُّونَ‏}‏ من أصد المنقول من صده صدود إذا تنكب وحاد وهو ليس بفصيح بالنسبة إلى القراءة الأخرى لأن في صده مندوحة عن تكلف النقل ولا محذور في كون القراءة المتواترة أفصح من غيرها، ومن مجيء أصد قوله‏:‏

أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم *** صدود السواقي عن أنوف الحوائم

ونظير هذا وقفه وأوقفه ‏{‏وَيَبْغُونَهَا‏}‏ أي يبغون لها فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير أي يطلبون لها ‏{‏عِوَجَا‏}‏ أي زيغاً واعوجاجاً وهي أبعد شيء عن ذلك أي يقولون لمن يريدون صده وإضلاله عن السبيل هي سبيل ناكبة وزائغة غير مستقيمة، وقيل‏:‏ المعنى يطلبون أن يروا فيها ما يكون عوجاً قادحاً فيها كقول من لم يصل إلى العنقود وليسوا بواجدين ذلك، وكلا المعنيين أنسب مما قيل‏:‏ إن المعنى يبغون أهلها أن يعوجوا بالردة‏.‏ ومحل موصول هذه الصلات الجر على أنه بدل كما قيل من ‏{‏الكافرين‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 2‏]‏ فيعتبر كل وصف من أوصافهم بما يناسبه من المعاني المعتبرة في الصراط، فالكفر المنبىء عن الستر بإزاء كونه نوراً، واستحباب الحياة الدنيا الفانية المفصحة عن وخامة العاقبة بمقابلة كون مسلوكه محمود العاقبة، والصد عنه بإزاء كونه سالكه عزيزاً‏.‏

وقال الحوفي‏.‏ وأبو البقاء‏:‏ إنه صفة ‏{‏الكافرين‏}‏ ورد ذلك أبو حيان بأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو ‏{‏مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 2‏]‏ سواء كان في موضع الصفة لويل أو متعلقاً بمحذوف، ونظير ذلك على الوصفية قولك‏:‏ الدار لزيد الحسنة القرشي وهو لا يجوز لأنك قد فصلت بين زيد وصفته بأجنبي عنهما، والتركيب الصحيح فيه أن يقال‏:‏ الدار الحسنة لزيد القرشي أو الدار لزيد القرشي الحسنة، وقيل إذا جعل ‏{‏مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 2‏]‏ خبر مبتدأ محذوف والجملة اعتراضية لا يضر الفصل بها وهو كما ترى، وجوز أن يكون محله النصب على الذم أو الرفع عليه بأن يقدر أنه كان نعتاً فقطع أي هم الذين، وجوز أن لا يقدر ذلك ويجعل مبتدأ خبره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ فِى ضلال‏}‏ أي بعد عن الحق ‏{‏بَعِيدٍ‏}‏ وهو على غير هذا الوجه استئناف في موضع التعليل، وفيه تأكيد لما أشعر به بناء الحكم على الموصول، والمراد أنهم قد ضلوا عن الحق ووقعوا عنه بمراحل‏.‏

وفي الآية من المبالغة في ضلالهم ما لا يخفى حيث أسند فيها إلى المصدر ما هو لصاحبه مجازاً كجد جده إلا أن الفرق بين ما نحن فيه وذاك أن المسند إليه في الأول مصدر غير المسند وفي ذاك مصدره وليس بينهما بعد‏.‏

ويجوز أن يقال‏:‏ إنه أسند فيها ما للشخص إلى سبب إتصافه بما وصف به بناء على أن البعد في الحقيقة صفة له باعتبار بعد مكانه عن مقصده وسبب بعده ضلاله لأنه لو لم يضل لم يبعد عنه، فيكون كقولك‏:‏ قتل فلاناً عصيانه، والإسناد مجازي وفيه المبالغة المذكورة أيضاً، وفي «الكشاف» هو من الإسناد المجازي والبعد في الحقيقة للضال فوصف به فعله، ويجوز أن يراد في ضلال ذي بعد أو فيه بعد لأن الضال قد يضل عن الطريق مكاناً قريباً وبعيداً، وكتب عليه في «الكشف» أن الإسناد المجازي على جعل البعد لصاحب الضلال لأنه الذي يتباعد عن طريق الضلال فوصف ضلاله بوصفه مبالغة وليس المراد إبعادهم في الضلال وتعمقهم فيه‏.‏

وأما قوله‏:‏ فيجوز أن يراد في ضلال ذي بعد فعلى هذا البعد صفة للضلال حقيقة بمعنى بعد غوره وأنه هاوية لا نهاية لها، وقوله‏:‏ أو فيه بعد على جعل الضلال مستقراً للبعد بمنزلة مكان بعيد عن الجادة وهو معنى بعده في نفسه عن الحق لتضادهما، وإليه الإشارة بقوله‏:‏ لأن الضال قد يضل مكاناً بعيداً وقريباً، والغرض بيان غاية التضاد وأنه بعد لا يوازن وزانه، وعلى جميع التقادير البعد مستفاد من البعد المسافي إلى تفاوت ما بين الحق والباطل أو ما بين أهلهما وجاز أن يكون قوله‏:‏ ذي بعد أو فيه بعد وجهاً واحداً إشارة إلى الملابسة بين الضلال والبعد لا بواسطة صاحب الضلال لكن الأول أولى تكثيراً للفائدة، ثم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ فِى ضلال‏}‏ دون أن يقول سبحانه‏:‏ أولئك ضالون ضلالاً بعيداً للدلالة على تمكنهم فيه تمكن المظروف في الظرف وتصوير اشتمال الضلال عليهم اشتمال المحيط على المحاط وليكون كناية بالغة في إثبات الوصف أعني الضلال على الأوجه فافهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا‏}‏ أي في الأمم الخالية من قبلك كما سيذكر إن شاء الله تعالى إجمالاً ‏{‏مِن رَّسُولٍ إِلاَّ‏}‏ متلبساً ‏{‏بِلِسَانِ قَوْمِهِ‏}‏ متكلماً بلغة من أرسل إليهم من الأمم المتفقة على لغة سواء بعث فيهم أولاً، وقيل‏:‏ بلغة قومه الذين هو منهم وبعث فيهم، ولا ينتقض الحصر بلوط عليه السلام فإنه تزوج منهم وسكن معهم، وأما يونس عليه السلام فإنه من القوم الذين أرسل إليهم كما قالوه فلا حاجة إلى القول بأن ذلك باعتبار الأكثر الأغلب ولعل الأولى ما ذكرنا‏.‏ وقرأ أبو السمال‏.‏ وأبو الحوراء‏.‏ وأبو عمران الجوني ‏{‏بلسن‏}‏ بإسكان السين على وزن ذكر وهي لغة في لسان كريش ورياش، وقال صاحب اللوامح‏:‏ إنه خاص باللغة واللسان يطلق عليها وعلى الجارحة وإلى ذلك ذهب ابن عطية‏.‏ وقرأ أبو رجاء‏.‏ وأبو المتوكل‏.‏ والجحدري ‏{‏بلسن‏}‏ بضم اللام والسين وهو جمع لسان كعماد وعمد‏.‏ وقرىء ‏{‏بلسن‏}‏ بضم اللام وسكون السين وهو مخفف لسن كرسل ورسل ‏{‏الله لِيُبَيّنَ‏}‏ ذلك الرسول ‏{‏لَهُمْ‏}‏ لأولئك القوم الذين أرسل إليهم ما كلفوا به فيتلقوه منه بسهولة وسرعة فيمتثلوا ذلك من غير حاجة إلى الترجمة وحيث لم تتأت هذه القاعدة في شأن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانه المرسلين أجمعين لعموم بعثته وشموله رسالته الأسود والأحمر والجن والبشر على اختلاف لغاتهم وكان تعدد نظم الكتاب المنزل إليه صلى الله عليه وسلم عليه حسب تعدد ألسنة الأمم أدعى إلى التنازع واختلاف الكلمة وتطرق أيدي التحريف مع أن استقلال بعض من ذلك بالإعجاز مئنة لقدح القادحين، واتفاق الجميع فيه أمر قريب من الإلجاء المنافي للتكليف، وحصل البيان بالترجمة والتفسير اقتضت الحكمة المنبىء عن العزة وجلالة الشأن المستتبع لفوائد غنية عن البيان، على أن الحاجة إلى الترجمة تتضاعف عند التعدد إذ لا بد لكل طائفة من معرفة توافق الكل حذو القذة بالقذة من غير مخالفة ولو في خصلة فذة، وإنما يتم ذلك بمن يترجم عن الكل واحداً أو متعدداً وفيه من التعذر ما فيه، ثم لما كان أشرف الأقوام وأولاهم بدعوته عليه الصلاة والسلام قومه الذين بعث بين ظهرانيهم ولغتهم أفضل اللغات نزل الكتاب المبين بلسان عربي مبين وانتشرت أحكامه بين الأمم أجمعين، كذا قرره شيخ الإسلام الإسلام والمسلمين وهو من الحسن بمكان، بيد أن بعضهم أبقى الكلام على عمومه بحيث يشمل النبي صلى الله عليه وسلم وأراد بالقوم الذين ذلك الرسول منهم وبعث فيهم، والمراد من قومه صلى الله عليه وسلم العرب كلهم، ونقل ذلك أبو شامة في المرشد عن السجستاني واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏"‏ انزل القرآن على سبعة أحرف ‏"‏ وفيه نظر ظاهر‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ المراد منهم قريش ولم ينزل القرآن إلا بلغتهم، وقيل‏:‏ إنما نزل بلغة مضر خاصة لقول عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ نزل القرآن بلغة مضر، وعين بعضهم فيما حكاه ابن عبد البر سبعاً منهم هذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسيد بن خزيمة وقريش، وأخرج أبو عبيد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ نزل بلغة الكعبين كعب قريش وكعب خزاعة فقيل‏:‏ وكيف‏؟‏ فقال‏:‏ لأن الدار واحدة يعني خزاعة كانوا جيران قريش فسهلت عليهم لغتهم؛ وجاء عن أبي صالح عنه أنه قال‏:‏ نزل على سبع لغات منها خمس بلغة العجز من هوازن ويقال لهم عليا هوازن، ومن هنا قال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ أفصح العرب عليا هوازن وسفى تميم يعني بني دارم، والذي يذهب مذهب السجستاني يقول‏:‏ إن في القرآن ما نزل بلغة حمير‏.‏ وكنانة‏.‏ وجرهم‏.‏ وأزد شنوءة‏.‏ ومذحج‏.‏ وخثعم‏.‏ وقيس عيلان‏.‏ وسعد العشيرة‏.‏ وكندة‏.‏ وعذرة‏.‏ وحضرموت‏.‏ وغسان‏.‏ ومزينة‏.‏ ولخم‏.‏ وجذام‏.‏ وحنيفة‏.‏ واليمامة‏.‏ وسبا‏.‏ وسليم‏.‏ وعمارة‏.‏ وطي‏.‏ وخزاعة‏.‏ وعمان‏.‏ وتميم‏.‏ وأنمار‏.‏ والأشعريين‏.‏ والأوس‏.‏ والخزرج‏.‏ ومدين؛ وقد مثل لكل ذلك أبو القاسم، وذكر أبو بكر الواسطي أن في القرآن من اللغات خمسين لغة وسردها ممثلاً لها إلا أنه ذكر أن فيه من غير العربية الفرس والنبط والحبشة والبربر والسريانية والعبرانية والقبط، والذاهب إلى ما ذهب إليه ابن قتيبة يقول‏:‏ إن ما نسب إلى غير قريش على تقدير صحة نسبته مما يوافق لغتهم، ونقل أبو شامة عن بعض الشيوخ أنه قال‏:‏ إنه نزل أولاً بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء ثم أبيح لسائر العرب أن تقرأه بلغاتهم التي جرت عاداتهم باستعمالها كاختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغتهم إلى لغة أخرى للمشقة‏.‏ ولما كان فيهم من الحمية ولطلب تسهيل المراد، لكن أنت تعلم أن هذه الإباحة لم تستمر، وكون المتبادر من قومه عليه الصلاة والسلام قريشاً مما لا أظن أن أحداً يمتري فيه ويليه في التبادر العرب‏.‏ وفي «البحر» أن سبب نزول الآية أن قريشاً قالوا‏:‏ ما بال الكتب كلها أعجمية وهذا عربي‏؟‏ وهذا إن صح ظاهر في العموم، ثم إنه لا يلزم من كون لغته لغة قريش أو العرب اختصاص بعثته صلى الله عليه وسلم بهم، وإن زعمت طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية اختصاص البعثة بالعرب لذلك، وحكمة إنزاله بلغتهم أظهر من أن تخفى، وقيل‏:‏ الضمير في ‏{‏قَوْمِهِ‏}‏ لمحمد صلى الله عليه وسلم المعلوم من السياق فإنه كما أخرج ابن أبي عن سفيان الثوري لم ينزل وحي إلا بالعربية ثم ترجم كل نبي لقومه، وقيل‏:‏ كان يترجم ذلك جبريل عليه السلام ونسب إلى الكلبي، وفيه أنه إذا لم يقع التبيين إلا بعد الترجمة فات الغرض مما ذكر، وضمير ‏{‏لَهُمْ‏}‏ للقوم بلا خلاف وهم المبين لهم بالترجمة‏.‏

وفي «الكشاف» أن ذلك ليس بصحيح لأن ضمير ‏{‏لَهُمْ‏}‏ للقوم وهم العرب فيؤدي إلى أن الله تعالى أنزل التوراة مثلاً بالعربية ليبين للعرب وهو معنى فاسد‏.‏

وتكلف الطيبي دفع ذلك بأن الضمير راجع إلى كل قوم بدلالة السياق، والجواب كما في «الكشف» أنه لا يدفع عن الإيهام على خلاف مقتضى المقام‏.‏ واحتج بعض الناس بهذه الآية على أن اللغات اصطلاحية لا توقيفية قال‏:‏ لأن التوقيف لا يحصل إلا بإرسال الرسل، وقد دلت الآية على أن إرسال كل من الرسل لا يكون إلا بلغة قومه وذلك يقتضي تقدم حصول اللغات على إرسال الرسول، وإذا كان كذلك امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف فوجب حصولها بالاصطلاح انتهى‏.‏

وأجيب بأنا لا نسلم توقف التوقيف على إرسال الرسل لجواز أن يخلق الله تعالى في العقلاء علماً بأن الألفاظ وضعها واضع لكذا وكذا، ولا يلزم من هذا كون العاقل عالماً بالله تعالى بالضرورة بل الذي يلزم منه ذلك لو خلق سبحانه في العقلاء علماً ضرورياً بأنه تعالى الواضع وأين هذا من ذاك، على أنه لا ضرر في التزام خلق الله تعالى هذا العلم الضروري وأي ضرر في كونه سبحانه معلوم الوجود بالضرورة لبعض العقلاء‏؟‏ والقول بأنه يبطل التكليف حينئذٍ على عمومه غير مسلم وعلى تخصيصه بالمعرفة مسلم وغير ضار ‏{‏فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاء‏}‏ إضلاله أي يخلق فيه الضلال لوجود أسبابه المؤدية إليه فيه، وقيل‏:‏ يخذله فلا يلطف به لما يعلم أنه لا ينجع فيه الإلطاف ‏{‏وَيَهْدِى‏}‏ يخلق الهداية أو يمنح الإلطاف ‏{‏مَن يَشَآء‏}‏ هدايته لما فيه من الأسباب المؤدية إلى ذلك، والالتفات بإسناد الفعلين إلى الاسم الجليل لتفخيم شأنهما وترشيح مناط كل منهما، والفاء قيل فصيحة مثلها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر فانفجرت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 60‏]‏ كأنه قيل‏:‏ فبينوه لهم فأضل الله تعالى من شاء إضلاله وهدى من شاء هدايته حسبما اقتضته حكمته تعالى البالغة، والحذف للإيذان بأن مسارعة كل رسول إلى ما أمر به وجريان كل من الفعلين على سننه أمر محقق غني عن الذكر والبيان‏.‏ وفي «الكشف» وجه التعقيب عن السابق كوجهه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏ على معنى أرسلنا الكتاب للتبيين فمنهم من نفعناه بذلك البيان ومنهم من جعلناه حجة عليه، والفاء على هذا تفصيلية، والعدول إلى صيغة الاستقبال لاستحضار الصورة أو الدلالة على التجدد والاستمرار حيث تجدد البيان من الرسل عليهم السلام المتعاقبة عليهم، وتقديم الإضلال على الهداية كما قال بعض المحققين إما لأنه إبقاء ما كان على ما كان والهداية إنشاء ما لم يكن أو للمبالغة في بيان أنه لا تأثير للتبيين والتذكير من قبل الرسل عليهم السلام وأن مدار الأمر إنما هو مشيئته تعالى بإيهام أن ترتيب الضلالة أسرع من ترتب الاهتداء، وهذا محقق لما سلف من تقييد الإخراج من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ‏{‏وَهُوَ العزيز‏}‏ فلا يغالب في مشيئته تعالى ‏{‏الحكيم‏}‏ فلا يشاء ما يشاء إلا لحكمة بالغة، وفيه كما في «البحر» وغيره أن ما فوض إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام إنما هو التبليغ وتبيين طريق الحق، وأما الهداية والإرشاد إليه فذلك بيد الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد‏.‏ ثم إن هذه الآية ظاهرة في مذهب أهل السنة من أن الضلالة والهداية بخلقه سبحانه، وقد ذكر المعتزلة لها عدة تأويلات، وللإمام فيها كلام طويل إن أردته فارجع إليه‏.‏